نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كيف يُعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل ملامح البحث العلمي؟ - شبكة أطلس سبورت, اليوم الثلاثاء 21 يناير 2025 09:11 مساءً
شهد عام 2024 تحولًا نوعيًا في المشهد العلمي، إذ برز الذكاء الاصطناعي كقوة دافعة في مختلف مجالات البحث، وقد وصل الأمر إلى وصف العام بأنه (عام الذكاء الاصطناعي في العلوم)، ولم يقتصر هذا التوصيف على مجرد تسمية، بل تجسد في منح جوائز نوبل المرموقة في مجالي الفيزياء والكيمياء لباحثين ساهموا بنحو كبير في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقها في هذين المجالين.
ويُعدّ هذا الحدث اعترافًا رسميًا من أعلى المؤسسات العلمية بأهمية الذكاء الاصطناعي ودوره المتنامي في دفع عجلة الاكتشافات العلمية.
ومع ذلك، فإن هذا التطور المذهل يثير في الوقت نفسه تساؤلات ومخاوف جدية حول مستقبل البحث العلمي وتكافؤ الفرص، ومن بين هذه المخاوف تفاوت الوصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي، إذ يثير القلق بشأن إمكانية حصر الوصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة والمكلفة في عدد محدود من المؤسسات البحثية الكبرى والممولة جيدًا، وقد يؤدي ذلك إلى تفاوت كبير في القدرة على إجراء الأبحاث المتطورة بين المؤسسات المختلفة، مما قد يعيق تقدم البحث العلمي على نطاق أوسع ويؤدي إلى احتكار المعرفة والتكنولوجيا.
جوائز نوبل تُكرّم إنجازات الذكاء الاصطناعي:
لقد مُنحت جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء لعام 2024 عن إنجازات مختلفة تمامًا، مما يبرز التنوع الكبير لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في العلوم، ففي مجال الفيزياء، ذهبت الجائزة إلى كل من جون هوبفيلد وجيفري هينتون، تقديرًا لإسهاماتهما الثورية في تطوير مجال التعلم الآلي عبر الشبكات العصبية الاصطناعية، التي تشكل العمود الفقري للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته التي نشهدها حاليًا.
وفي مجال الكيمياء، ذهبت الجائزة إلى فريق جوجل ديب مايند عن إنجازهم العلمي المتمثل في تطوير نموذج (AlphaFold) القادر على التنبؤ ببنية البروتينات وكيفية طيها، وهو تحد علمي استعصى على الحل لمدة نصف قرن.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن جائزة نوبل في الكيمياء لم تُمنح تقديرًا لتطوير جديد في مجال الذكاء الاصطناعي نفسه، بل تقديرًا للاكتشاف العلمي المهم الذي حُقق باستخدامه، بمعنى آخر، كان الهدف الرئيسي هو حل مشكلة التنبؤ ببنية البروتينات، وبغض النظر عن الطريقة المستخدمة لتحقيق هذا الحل، فإن الفريق الذي يحققه كان سيستحق جائزة نوبل.
ومع ذلك، فإن هذه التطورات تشير بوضوح إلى تحول جوهري في دور الذكاء الاصطناعي في العلوم، فبعد أن كان الذكاء الاصطناعي في السابق مجرد موضوع للدراسة والبحث، بات اليوم يُشكّل آلية أساسية للبحث والاكتشافات العلمية، ويساهم في حل المشكلات العلمية المعقدة وفتح آفاق جديدة للمعرفة البشرية.
الوصول إلى الأداء البشري وتجاوزه:
لم يبدأ التحول الجذري لدور الذكاء الاصطناعي في البحث الأكاديمي مع ظهور روبوت (ChatGPT) والضجة الإعلامية التي رافقته، بل تعود جذوره إلى ما قبل ذلك بكثير، تحديدًا عندما بدأت هذه الأنظمة تحقق أول مرة أداءً يضاهي القدرات البشرية في مهام حاسمة للبحث العلمي، وقد شكلت هذه اللحظات الفارقة نقطة انطلاق حقيقية نحو إدماج الذكاء الاصطناعي في صميم العملية البحثية.
فقد سجل نظام (ResNet) التابع لشركة مايكروسوفت في عام 2015، إنجازًا بارزًا بتجاوزه الأداء البشري في اختبار (ImageNet)، وهو معيار يُقيّم قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على تصنيف الصور وتنفيذ مهام أخرى متعلقة بمعالجة الرسومات، وفتح هذا الإنجاز الباب أمام استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل الصور على نطاق واسع.
وفي عام 2019، حقق نظام (RoBERTa) التابع لشركة ميتا – وهو تطوير لنظام (BERT) التابع لشركة جوجل – تفوقًا مماثلًا بتجاوزه القدرات البشرية في اختبار (GLUE)، إذ أظهر إتقانًا في مهام مثل تصنيف النصوص وتلخيصها.
ولم تكن هذه الإنجازات، التي تحققت في مختبرات بحثية خاصة كبيرة، مجرد انتصارات تقنية، بل كانت بمنزلة أدوات قوية وضعت بين يدي الباحثين، مما مكنهم من توظيف الذكاء الاصطناعي في طيف واسع من المهام البحثية المتنوعة، مثل: استخدام صور الأقمار الصناعية لتحليل مستويات الفقر في مناطق مختلفة من العالم، واستخدام الصور الطبية للكشف المبكر عن السرطان بدقة وكفاءة عالية.
كما ساهمت هذه الإنجازات في أتمتة المهام التي كان يقوم بها البشر، مما أدى إلى خفض التكاليف وتوسيع نطاق البحث، بالإضافة إلى زيادة موضوعية النتائج.
دور الذكاء الاصطناعي في فهم البيانات:
لم يَعد دور الذكاء الاصطناعي في المجالات العلمية مقتصرًا على جمع البيانات ومعالجتها فحسب، بل تطور ليصبح أداة قوية لفهم هذه البيانات واستخلاص رؤى جديدة ومعمقة، ففي العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والفيزياء، يستخدم الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في عمليات التنبؤ بسلوك الأنظمة المعقدة، مثل أنماط الطقس المعقدة وهياكل البروتينات، مما يساهم في فهمنا لهذه الظواهر الطبيعية بنحو كبير.
ومع ذلك يختلف هذا الوضع في العلوم الاجتماعية والطب، إذ يكتسب فهم العلاقات السببية بين الظواهر أهمية قصوى، ويتجاوز مجرد القدرة على التنبؤ بها، فعلى سبيل المثال، عند تقييم تأثير سياسة اجتماعية أو اقتصادية ما، لا يكفي مجرد ملاحظة التغيرات التي حدثت بعد تطبيق السياسة، بل يحتاج الباحثون إلى تقدير كيف كانت الأمور ستسير في غياب هذه السياسة، وهو ما يُعرف باسم (المسار الافتراضي) الذي لا يُمكن ملاحظته مباشرة، وتشكل هذه الحاجة إلى فهم العلاقات السببية تحديًا منهجيًا في هذه المجالات.
ويواجه علم الطب هذه المعضلة من خلال استخدام التجارب السريرية العشوائية، إذ يُقسم المشاركين في الدراسة عشوائيًا إلى مجموعات مختلفة لمقارنة آثار العلاجات المختلفة، ويُعتمد هذا النهج بنحو متزايد في العلوم الاجتماعية أيضًا، كما يتضح من جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2019 التي مُنحت لأبهيجيت بانيرجي وإستير دوفلو ومايكل كريمر لأبحاثهم حول الحد من الفقر باستخدام التجارب العشوائية المحكمة في سياقات واقعية.
ومع ذلك، يصبح إجراء مثل هذه التجارب العشوائية في مجال الاقتصاد الكلي، الذي يدرس الاقتصاد على نطاق واسع، أمرًا غير عملي في كثير من الأحيان، فمن غير الممكن لدولة ما أن تتبنى إستراتيجيات تجارية أو مالية عشوائية لمجرد أغراض البحث العلمي.
ويبرز هنا الدور الحيوي للذكاء الاصطناعي، الذي أحدث ثورة حقيقية في دراسة الأنظمة الاقتصادية الكبيرة والمعقدة، فالأدوات الحسابية المتقدمة القائمة على الذكاء الاصطناعي قادرة على إنتاج نماذج تفسّر بدقة وتعقيد يفوق القدرات البشرية المنفردة كيفية عمل جوانب مختلفة من الاقتصاد، وتساعد في فهم العلاقات السببية المعقدة بين المتغيرات الاقتصادية.
وتجدر الإشارة إلى أن عمل سوزان آثي وزملائها حول تأثير علوم الحاسوب والإحصاء المتقدم في البحث الاقتصادي كان من بين المرشحين لجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2024، مما يؤكد الأهمية المتزايدة لهذا المجال ودوره في دفع عجلة البحث الاقتصادي.
الدور المحوري للإنسان:
بينما يظهر الذكاء الاصطناعي براعة فائقة في جمع البيانات وتحليلها، يظل الإنسان هو العنصر الأساسي الذي يربط هذه البيانات بالواقع الملموس ويفهم دلالاتها الحقيقية، وهذه القدرة على الفهم السياقي والواقعي هي ما يميز البشر عن الآلات.
لتوضيح ذلك، لنأخذ مثال النماذج اللغوية الكبيرة، وهي التقنية التي تقوم عليها روبوتات الدردشة مثل ChatGPT، يمكن لهذه النماذج أن تنتج جملة صحيحة لغويًا مثل: (لا يمكن وضع آلة الساكسفون هذه في الحقيبة البنية لأنها كبير جدًا)، بل ويمكنها أيضًا تحديد أن الضمير (أنها) يعود على آلة الساكسفون وليس الحقيبة، ويُعدّ ذلك إنجازًا مُذهلًا مقارنة بما كان ممكنًا قبل عقد من الزمن.
ومع ذلك، يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى فهم حقيقي للأجسام الثلاثية الأبعاد وللعالم المادي، لأنه يعمل مثل (دماغ في وعاء) مقتصرًا على معالجة النصوص وحل المشكلات اللغوية دون أي تفاعل حقيقي مع الواقع، فهو لا يمتلك أي إدراك حسي أو تجربة فيزيائية.
وعلى النقيض من ذلك، يتشكل الوجود البشري من خلال مجموعة متنوعة من الاحتياجات والتجارب، مثل: التنقل في عالم ثلاثي الأبعاد، والتفاعل الاجتماعي المعقد، وإدارة العلاقات الإنسانية، وتجنب الصراعات، والتعاون، وبناء مجتمعات آمنة وعادلة، وتكون هذه القدرات الشاملة فهمنا للعالم وتعطي معنى لتفاعلاتنا معه.
في حين أنظمة الذكاء الاصطناعي، في وضعها الحالي، متخصصة في مهمة واحدة، فالنماذج اللغوية الكبيرة مدربة فقط على إنشاء نصوص متماسكة، دون أي ارتباط بالواقع الأوسع أو الأهداف العملية الحقيقية.
ولن تتحقق القفزة النوعية نحو الفهم الحقيقي إلا عندما يتمكن نظام ذكاء اصطناعي واحد من متابعة أهداف عامة متعددة في وقت واحد، وإدماج المهام المختلفة، وربط الكلمات والمفاهيم بحلول واقعية في العالم الحقيقي، عندها فقط، ربما، سنشهد أول نظام ذكاء اصطناعي يستحق جائزة نوبل عن جدارة، ومن المستحيل التنبؤ بدقة متى أو كيف سيحدث هذا التحول، لكن آثاره المحتملة كبيرة جدًا بحيث لا يمكن تجاهلها.
وقد يُبشر صعود البحث العلمي المدفوع بالذكاء الاصطناعي بعصر ذهبي من الاكتشافات العلمية غير المسبوقة، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى مستقبل منقسم بشدة، حيث تفتقر العديد من المختبرات، وخاصة المختبرات العامة في دول الجنوب العالمي، إلى أدوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة اللازمة لإجراء أبحاث متطورة، إذ أصبحت شركات مثل: جوجل ومايكروسوفت وميتا وتسلا و OpenAI في طليعة البحث الأساسي، وهو تحول كبير عن الوضع السابق الذي كانت فيه المؤسسات العامة والأكاديمية هي الرائدة في هذا المجال.
ويطرح هذا الواقع الجديد تساؤلات ملحة حول مدى ثقتنا بالذكاء الاصطناعي الذي تطوره شركات خاصة لتشكيل مسار البحث العلمي، كما يطرح تساؤلات حول كيفية معالجة مخاطر تركز القوة في أيدي قلة، والتهديدات التي تتعرض لها مبادئ العلوم المفتوحة – التي تؤكد إتاحة البحوث للجميع مجانًا – والتوزيع غير المتكافئ للمكافآت العلمية بين الدول والمجتمعات.
لذلك إذا أردنا أن نحتفل بأول ذكاء اصطناعي يفوز بجائزة نوبل عن اكتشافه الخاص، يجب علينا أن نضمن تهيئة الظروف المناسبة لكي نعتبر ذلك انتصارًا للبشرية جمعاء، وليس انتصارًا لفئة معينة على حساب الآخرين، ويجب أن نضمن أن فوائد هذه التكنولوجيا ستعم على الجميع بشكل عادل.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
0 تعليق